العرب وجرائم الحرب الإسرائيلية!
ليس صحيحاً أن العرب عاجزون عن ممارسة أي ضغط على إسرائيل من أجل إنقاذ ما تتيسر استعادته من حقوق الشعب الفلسطيني، التي مازالت الأمم المتحدة تعتبرها "غير قابلة للتصرف". الأقرب إلى الصحة هو أن ضعف الثقة المتبادلة بين عدد كبير من الحكومات العربية يخلق أجواء غير ملائمة لأي عمل مشترك يتسم بالفاعلية والتأثير، سواء على صعيد قضية فلسطين أو غيرها. ولما كان هذا هو الواقع المؤلم اليوم، فإننا نخدع أنفسنا إذا انتظرنا عملا عربياً فاعلا لمواجهة الخطر النوعي غير المسبوق الذي يهدد قضية فلسطين في ظل انسداد أفق الحل السلمي على أساس مبدأ "دولتين لشعبين". فعمل عربي على هذا المستوى يتطلب حداً أدنى من التفاهم بين دول تفصلها مساحات هائلة من الشكوك المتبادلة بعضها معلن ومعظمها ظاهرة مؤشراته من دون حاجة للإفصاح عنه.
ومع ذلك، يستطيع العرب ممارسة ضغط يمكن أن يكون مؤثراً، ومؤدياً إلى تغير جزئي في الموازين التي تحكم الصراع في الفترة المقبلة، إذا توافقوا على التعاون من أجل مقاضاة إسرائيل وملاحقة مسؤوليها ذوي الصلة بجرائم الحرب التي ارتُكبت في العدوان الأخير على قطاع غزة.
وتمثل هذه الجرائم فرصة فريدة لا يستدعي استثمارها عربياً أكثر من اتفاق على تحرك تقوم فيه كل دولة عربية بما تستطيعه في إطار خطة للتعاون تشارك فيها نقابات المحامين ومنظمات حقوقية عربية وأجنبية. ويمكن لهذا التحرك أن ينطلق من وثيقتين على أعلى درجة من الأهمية؛ إحداهما صادرة عن الأمم المتحدة والأخرى عن منظمة "هيومان رايتس ووتش" الأميركية التي تعتبر إحدى أكبر المنظمات الحقوقية في عالم اليوم.
في الوثيقة الأولى، خلص ريتشارد فولك مفوض الأمم المتحدة لشؤون حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية، إلى أن بعض العمليات العسكرية التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة يندرج ضمن جرائم الحرب. وأقام فولك حكمه هذا على تقييم دقيق وموثق لأداء الجيش الإسرائيلي انتهى فيه إلى أن هذا الجيش لم يميز بين أهداف عسكرية وأخرى مدنية خلال عدوانه. وهذا هو المعيار الرئيسي في تعريف جريمة الحرب وفق القانون الدولي. ويمثل هذا التقرير، الذي أُعد خصيصاً لتقديمه إلى مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، أساساً قوياً لتحرك يستهدف فتح تحقيق في جرائم الحرب الإسرائيلية بواسطة أية سلطة قضائية وطنية أو دولية تسمح قوانين بلادها واللوائح المنظمة لعملها بذلك.
وفضلا عن أن المادة 146 من اتفاقية جنيف الرابعة تفرض على الدول الموقعة ملاحقة مجرمي الحرب أياً كانوا وحيثما وُجدوا، تنص قوانين بعض البلاد الأوروبية على اختصاص محاكمها بنظر القضايا ذات الصلة بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. وقد تحرك عدد من الحقوقيين في النرويج وإسبانيا وبلجيكا في هذا الاتجاه فعلا من دون مساندة عربية يمكن أن تدعم قدرتهم على المضي فيه إلى نهايته. وثمة محاولات بدأت في دول أوروبية أخرى في الاتجاه نفسه. ولا ننسى أن بعض المسؤولين الإسرائيليين يحملون جنسيات بعض هذه الدول. ولذلك لن يبدأ أي عمل عربي مشترك في هذا المجال من فراغ، إذا حدث توافق على خطة للتحرك يُعهد إلى الجامعة العربية مثلا بتنسيق الجهود في إطارها.
كما أصدرت "هيومان رايتس ووتش" تقريراً بالغ الأهمية تحت عنوان شديد الإيحاء هو "أمطار النار"، ركز فيه على استخدام القوات الإسرائيلية قذائف الفوسفور الأبيض خلال عدوانها على القطاع. وتجاوز هذا التقرير الجدل حول ما إذا كانت هذه القذائف تدخل ضمن الأسلحة المحرم استخدامها دولياً من عدمه، وجزم بأن الإطلاق العشوائي لهذه القذائف على مناطق مزدحمة بالسكان يعد جريمة حرب. واعتبر التقرير أنه إذا كان الهدف من استخدام الفسفور الأبيض هو إطلاق ستار كثيف من الدخان، وفقاً لادعاءات الإسرائيليين، فقد كان ممكناً اللجوء إلى قذائف دخان غير قاتلة. وأثبت التقرير أن لدى إسرائيل مثل هذه القذائف، وأن قيادة جيشها كانت على علم تام بأخطار الفوسفور الأبيض الذي يواصل الاشتعال إلى درجة حرارة تتجاوز ثمانمائة درجة مئوية.
وفى ظل هذين التقريرين، تكتسب شهادات أدلى بها جنود إسرائيليون عن جرائم ارتُكبت في قطاع غزة أهمية مضاعفة، خصوصاً وأن مصدرها "من أهل البيت" نفسه. فقد امتلكت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية شجاعة تسجيل هذه الشهادات ونشرها، بما تضمنته من معلومات مذهلة أكدت زيف ادعاء وزير الدفاع الإسرائيلي باراك عندما تحدث عن "أخلاقيات جيش الدفاع"! فقد شهد جنود إسرائيليون لا يدركون فداحة ما قالوه بأنهم تلقوا أوامر بسرعة الضغط على الزناد لقتل كل من يشتبهون فيه، وإطلاق النار على فرق الإسعاف والإنقاذ الفلسطينية، وعلى كل من يعبر طريق صلاح الدين باتجاه الشرق. كذلك حصلت "هآرتس" على ورقة مكتوبة بخط اليد في أحد المنازل التي تمركزت فيها قوات إسرائيلية في حي شرق جباليا. وتدل التعليمات المتضمنة في هذه الورقة، والموجهة من ضابط إسرائيلي إلى جنوده، على أن إطلاق النار على سيارات إسعاف فلسطينية وأخرى تابعة للصليب الأحمر الدولي وقصف مقرات للأمم المتحدة لم يكن خطأ، وإنما حدث عن سبق إصرار وترصد.
وهذه كلها، وغيرها كثير، معلومات موثقة لم نبذل نحن العرب جهداً للحصول عليها وتوثيقها. لذلك فأقل ما يمليه الواجب علينا تجاه قضية فلسطين هو أن نحسن استثمارها عبر تحرك قانوني قضائي منهجي ومدروس ومنظم. ولا يعني ذلك أن التحرك سيكون سهلا أو أن طريقه ممهدة. فهذه طريق شديدة الوعورة، لكن المضي قدماً فيها ليس مستحيلا، لاسيما في ظل انتشار غير مسبوق لمفاهيم القانون الدولي الإنساني.
ورغم ازدواج معايير المجتمع الدولي في هذا المجال، تقع علينا في العالم العربي والإسلامي بعض المسؤولية عن هذا الازدواج. فقليلا، بل نادراً، ما نسعى إلى استخدام الأدوات التي أصبحت متاحة لنيل حقوقنا أو المحافظة عليها. فقد حال الشعور السائد لدينا بأننا مستهدفون وموضع تآمر مستمر دون بذل الجهد اللازم لكي نسعى إلى استهداف إسرائيل قانونياً وقضائياً.
فإذا نفضنا عن أنفسنا هذا الشعور الذي أقعدنا عن العمل، يمكن أن نجعل من جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل في عدوانها على غزة أداة ضغط ستكون مؤثرة بمقدار جديتنا وتعاوننا وعقلانية تحركنا وشموله وقدرته على طرق مختلف الأبواب، بما في ذلك باب المحكمة الجنائية الدولية. فمدعي عام هذه المحكمة (أوكامبو) لم يرفض بشكل حاسم ونهائي التحقيق في الجرائم المذكورة، وإنما لجأ إلى نوع من التسويف عندما طلب شهادات من سكان القطاع تُرسل إليه في لاهاي بدلا من أن يبادر هو بأداء واجبه وزيارة القطاع للحصول عليها.
ومع ذلك يكفي أنه وافق من حيث المبدأ على التدقيق في ملفات قُدمت إليه من منظمات حقوقية دولية مثل "التحالف الدولي لمنع الإفلات من العقاب". ويمكن لتحرك عربي جاد ومدروس أن يفتح باباً آخر للوصول إلى المحكمة الجنائية الدولية عبر السعي إلى إحالة تقرير مفوض الأمم المتحدة لشؤون الأراضي الفلسطينية إلى مجلس الأمن. وإذا حدث ذلك، فستكون المهمة صعبة لإقناع الإدارة الأميركية بعدم عرقلة إحالته إلى المحكمة، لكنها لن تكون مستحيلة إذا شمل هذا التحرك اتصالات مكثفة مع أعضاء في الكونغرس ووسائل إعلام فضلا عن المنظمات الحقوقية في الولايات المتحدة.
ومن الوسائل التي يمكن أن تكون بالغة التأثير مساعدة سكان قطاع غزة من المصابين وأقارب الشهداء وغيرهم على الإدلاء بشهادات مكتوبة ومصورة، لإرسالها إلى الكونغرس والبرلمان الأوروبي وبثها في قنوات تلفزيونية.
أما الشهادات الحية فهي بالضرورة أكثر تأثيراً. وهي لا تحتاج إلى أكثر من تنظيم رحلات لبعض المصابين وأقارب الشهداء إلى الولايات المتحدة ودول أوروبية بدعوات من منظمات حقوقية لتقديم شهاداتهم في كل منتدى يمكن الوصول إليه.
وهكذا، فمن شأن تحرك عربي على هذا المستوى أن يضع إسرائيل تحت ضغط حقيقي يثير أشد القلق لديها على نحو يمكن أن يدفعها إلى التجاوب مع جهود السلام بجدية للمرة الأولى سعياً إلى وضع حد لهذا الضغط.
وسيكون في إمكان الدول العربية حينئذ أن تمتلك، وللمرة الأولى منذ وقت طويل، زمام المبادرة في معادلة الصراع وجهود تسويته. أفليس هذا أفضل من أن نستجدي تسوية "تجود" بها إسرائيل كمن لا يكف عن الركض وراء سراب؟